ما بين «أوسلو» و«أبراهام».. «ليس التاريخ هو التاريخ ولا بن زايد هو أبو عمار


وفا- ترافق الإعلان عن قرب توقيع اتفاق "أبراهام" لتطبيع العلاقات بالكامل بين إسرائيل والإمارات، حملات شبه ممنهجة على المواقع الالكترونية وصفحات التواصل الإجتماعي، تبرر خطوة "العار والخيانة" التي أقدم عليها محمد بن زايد، في محاولة لتخفيف حالة الاحتقان التي أصابت الشارع العربي المتشبث بموقفه الرافض للتطبيع مع الاحتلال قبل نيل الفلسطينيين لحقهم المشروع بإقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس، وفقًا لقرارات الشرعية الدولية والقرارات الأممية ذات الصلة.
وغرد إعلاميون وسياسيون عرب، و"كتّاب البلاط"، مهللين لهذه الخطوة، زاعمين أنها جاءت خدمة للقضية الفلسطينية بوقفها لقرار ضم الاحتلال لأراضي الضفة الغربية. إلا أن هذا الإدّعاء المتخذ من القضية الفلسطينية ستارًا، سرعان ما تكشف بعد إعلان رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو بأن مخطط الضم ما زال على الطاولة، وجرى تجميده مؤقتًا بانتظار ضوء أخضر أميركي لتنفيذه.
وبعد أن تكشّف زيف إدعائهم، عزف البعض على وتر أن الفلسطينيين سبقوا الإمارات، ووقعوا اتفاق "أوسلو" مع إسرائيل، وبالتالي لا حرج إن طبّعت الإمارات علاقاتها مع إسرائيل!. ومن المفارقات، أن عددًا من أبناء شعبنا يتداولون هذا الإدعاء، عن قصد أو غير قصد، رغم البون الشاسع بين اتفاق "أبراهام" التطبيعي المجاني الذي يقدم خدمة للاحتلال بمواصلة جرائمه بحق أبناء شعبنا وأرضنا ومقدساتنا، وبين اتفاق "أوسلو" وسياقه التاريخي، الذي ترافق مع مسيرة نضالية طويلة ومستمرة إلى يومنا هذا، بذل خلالها أبناء شعبنا أرواحهم على مذبح الحرية والاستقلال، دفاعًا عن كرامتهم وكرامة الأمة العربية جمعاء.
عام 2001، طرح الإعلامي اللبناني المعروف زاهي وهبي سؤالا على مسؤول ملف القدس في منظمة التحرير الراحل فيصل الحسيني، خلال مقابلة معه. "حضرتك عم بتطلب من العرب عدم الجلوس مع الإسرائيليين وعدم اعطاء مهلة للإسرائيليين، وفي نفس الوقت حضرتكم كفلسطينيين وكسياسيين وكمفاوضين تجلسون مع الإسرائيليين. قد يقول قائل لماذا تحرمّون على سواكم ما لا تحرّمون على أنفسكم؟"، سأل وهبي.
فأجاب الحسيني الملقّب بــ"أمير القدس": "نحن في حالة اشتباك مع الإسرائيليين، فرض علينا نوع من الاشتباك، نوع من الارتباط. نحن في احشائهم وهم في احشائنا كما يقولون. ونحن نحاول أن نفك هذا الارتباط. وبالتالي نحن نجلس معهم لنفك هذا الارتباط. لا يستطيع أحد أن يستخدم هذا الأمر كمظلة ليجلس مع الإسرائيليين، ليشكّل ارتباطا معهم. هناك حركة ديناميكية مختلفة تماما ما بين جلوسنا مع الإسرائيليين لفك الارتباط وجلوس الدول العربية مع الإسرائيليين الذي سيؤدي لمزيد من الارتباط".
سبق توقيع منظمة التحرير لاتفاق "أوسلو" ظروفًا سياسية غاية في التعقيد، ابتداءً من الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وخروج الفدائيين الفلسطينيين من بيروت وتوزيعهم على تسع دول، ثم الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت شرارتها عام 1987، وحرب الخليج الثانية، وانهيار الاتحاد السوفييتي الداعم لمنظمة التحرير، مما أثّر بصورة كبيرة على القضية الفلسطينية.
وفي ظل الضغوط العربية والدولية التي مورست على قيادة منظمة التحرير برئاسة الشهيد الراحل ياسر عرفات، قبلت المنظمة الدخول إلى مسار التفاوض المستند إلى الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة، وقبل كل ذلك المستند إلى الثوابت الفلسطينية والقرار الفلسطيني المستقل بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين وحلول عادلة لمختلف القضايا العالقة.
ورأت قيادة المنظمة في حينها، أن العودة إلى أرض الوطن ستتيح لها التحرك ومواصلة فعلها النضالي المشتبك مع الاحتلال بدل البقاء في الخارج، وأن عودتها تعني أنها تستطيع التفاوض على القدس من رام الله بدلًا من تونس.
ورغم المآخذ التي فرضت على القيادة الفلسطينية في "أوسلو"، إلا أن الاتفاق في سنواته الأولى نجح في إعادة قيادة منظمة التحرير إلى أرض الوطن، والمئات من العائلات الفلسطينية، وبدأ الفلسطينيون مرحلة بناء مؤسسات دولتهم المستقبلية.
يقول الراحل فيصل الحسيني حول اتفاق أوسلو: ""بعد فترة طويلة من الحمل، رزقنا بطفل، أصغر مما كنّا نتوقع، أقل جمالا مما كنّا نتوقع، أضعف مما كنّا نتوقع، لكنه ابننا، علينا أن نرعاه حتى يصبح قادرًا على الوقوف على قدميه، ونطور ونقاتل من أجله".
وفي 13 أيلول 1993، جرى توقيع اتفاق "إعلان المبادئ" الفلسطيني الإسرائيلي (اتفاقية أوسلو) في البيت الأبيض في العاصمة الأميركية واشنطن، بين منظمة التحرير الفلسطينية، وحكومة إسرائيل، واختار الاتفاق مدينتي غزة، وأريحا كمناطق نموذجية لإقامة الحكم الذاتي في البداية، على أن يمتد إلى باقي الأراضي الفلسطينية بعد المفاوضات.
وفي الوقت الذي التزمت فيه القيادة الفلسطينية بالاتفاق، نفذت إسرائيل العديد من الإجراءات أحادية الجانب ضاربة الاتفاق بعرض الحائط، حيث واصلت بناء وتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية، وأعادت احتلال المدن والمناطق المصنفة (أ) عام 2002، واستمرت في اقتحام المناطق الخاضعة للسيطرة الفلسطينية وتنفيذ عمليات القتل والإعدام الميداني وهدم المنازل والمنشآت، بالإضافة إلى بناء جدار الفصل العنصري الذي قطّع أوصال الضفة الغربية وعزلها عن القدس المحتلة، ونشر العشرات من الحواجز العسكرية بين المدن والقرى الفلسطينية.
كما لم تتوقف الاعتقالات الإسرائيلية للفلسطينيين بالرغم من توقيع اتفاق "أوسلو"، وسُجل منذ توقيع الاتفاق أكثر من (120) ألف حالة اعتقال. وافتتحت سلطات الاحتلال العديد من السجون والمعتقلات لاستيعاب هذه الأعداد الكبيرة من المعتقلين. كما ارتقى العشرات من الأسرى شهداء بعد الاعتقال نتيجة التعذيب والقتل المتعمد والإهمال الطبي وآخرهم كان الأسير سعدي الغرابلي من غزة، هذا بالإضافة الى عشرات آخرين توفوا بعد خروجهم من السجن بفترات وجيزة متأثرين بأمراض ورثوها من السجون. وما زال الاحتلال يحتجز في سجونه ومعتقلاته نحو (5700) أسير، بينهم (26) من الأسرى القدامى قبل اتفاق أوسلو و(220) طفلا، و(38) أسيرة، و(500) معتقل اداري.
ونتيجة لتنكر إسرائيل لبنود الاتفاق، أعلنت القيادة الفلسطينية وقف المفاوضات منذ نيسان 2014، في ظل مواصلة اسرائيل لاستيطانها وجرائمها بحق شعبنا، ورفضها الإفراج عن الأسرى، وإدارة ظهرها لحل الدولتين بإجراءات أحادية الجانب، آخرها إعلان رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو عن نيته ضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية، مدعوماً من الإدارة الأميركية التي قدمت له الهدايا باعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل، وتلويحها بصفقات مشبوهة تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية.
ولم يمنع اتفاق "أوسلو" الفلسطينيين من مواصلة نضالهم المشروع ضد الاحتلال على مختلف الجبهات، وتوسع إطار المقاومة الشعبية السلمية ضد الاحتلال وجداره ومشاريعه الاستيطانية، كما واصلت القيادة الفلسطينية نضالها السياسي والدبلوماسي في مختلف المحافل الدولية لفضح الاحتلال وجرائمه وللمطالبة بحقوق شعبنا الكاملة غير المنقوصة.

أما اتفاق "أبراهام" التطبيعي، الذي يعكس أطماع وأجندة بن زايد الإقليمية، دون الاستناد إلى أي ثوابت عروبية، فقد تجاوز كل الخطوط الحمراء، سياسياً وتاريخياً وإنسانياً. إن موقف القيادة الإماراتية هو خيانة للقضية الفلسطينية وتضحيات أبناء شعبنا وكسر للموقف العربي، ويستوجب العقاب، وشتان بين ما أقدمت عليه أبو ظبي وما قامت به منظمة التحرير الفلسطينية، وأي محاولة لإسقاط الشبه بين "أبراهام" و"أوسلو" ما هي إلّا مساع مشبوهة لتمرير جريمة "أبو ظبي" وتخفيف حالة الاحتقان الشعبي في فلسطين والعالم العربي أجمع، "فليس التاريخ هو التاريخ ولا بن زايد هو أبو عمار".